هيا بنا أبنائي وبناتي الأحباء نتعرف على واحدة من قصص البطولة والفداء في سبيل الإيمان، إنها قصة أُسرة كاملة قهرت بصلابتها وشجاعتها وإيمانها أشد الناس كرهًا للإسلام.....
فتعالوا نتعرف عليها:
الأسرة المؤمنة:
أمر الله نبيه محمدًا r بالجهر بالدعوة إلى الإسلام بعد أن مكث ثلاث سنوات يدعو سرًا، وبدأت أعداد المؤمنين تزداد يومًا بعد يوم، فازداد غيظ كفار قريش، حتى قرروا أن يعذبوا مَن دخلوا في الإسلام؛ ليكونوا عِبرة لغيرهم من الناس، حتى لا يتجرأ أحد بعد ذلك على الدخول في دعوة محمد r، فصبَّت قريشٌ العذاب على المؤمنين صبًّا، وكان مِن بين المعذبين أسرة عمار بن ياسر، عذبوه مع أبيه ياسر، وأمه سمية؛ لأنهم آمنوا بدين محمد r.
الطاغية الفاجر:
وكان أبو جهل- أو فرعون الأمة كما كان سماه النبي r بسبب بطشه وتعذيبه الشديد للمسلمين- يقوم بالإشراف بنفسه على تعذيب هذه الأسرة المؤمنة، فأذاقهم من القسوة والآلام ما لا تحتمله الجبال، ما بين قيود ثقيلة غليظة إلى جلدهم بالسياط حتى تنزف ظهورهم، وهكذا ضرْبٌ لا يكل ولا يمل.
البُشرى الجميلة:
العجيب أن هذه الأسرة تصبر صبرًا عجيبًا، ويزداد صبرها كلما مرَّ عليها النبي محمد r قائلاً: "صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة" حديث صحيح(1).
كانت هذه البشرى تزيدهم ثباتًا وصمودًا وقدرة على التحدي والصبر، حتى كاد أبو جهل أن ينفجر من الغيظ، ويفقد عقله من شدة الغضب، فقرر في خسة ودناءة أن يزيد في عذابه لأم عمار سمية بنت خياط، فهي امرأة ضعيفة الجسم؛ لعلَّ ابنها عمارًا وزوجها ياسرًا تضعف قواهما، وتنهار عزيمتهما، فيرجعا عن الإسلام فيُنقذا سمية من العذاب، أو يُقنِعاها بتنفيذ ما يطلبه أبو جهل من قول كلمة الكفر.
خطة قذرة:
بدأ أبو جهل في تنفيذ خطته الخبيثة الدنيئة، وانهال هو وعبيده على سُميَّة بالسياط، وزادوا في قيودها، وشدوها من يديها ورجليها بالحبال، وهددوها بالقتل، وصرخت سمية حتى فقدت قدرتها على النطق أو حتى الأنين، من شدة الإيذاء.
وهنا تقدم إليها أبو جهل في غَطْرسةٍ وهو يثق بأنها ستستجيب لمطالبه الآن، وستركع أمام قدميه ليُخلِّصها من العذاب، فلما صار أمامها وجها لوجهٍ أمَرَها أن تسُبَّ محمدًا وإله محمد؛ حتى يتركها.
فما كان من الصحابية البطلة سُميَّة إلا أن استجمعت كل قواها، ثم بصقت في وجه أبي جهل- لعنه الله- أمام قومه وعبيده، ثم سبَّته وشتمته.
أول شهيدة في الإسلام:
بلغ إحساس أبي جهل بالغضب والغيظ منتهاه، فأمسك برمح كان مع أحد عبيده، وطعنها به طعنة قوية، ليُخرس صوتها الذي أخْزاه وأذلَّه أمام الدنيا كلها، ونالت سميةُ - رضي الله عنها- الشهادة في سبيل الله؛ لتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم قتلوا ياسرًا حين ثار في قيوده غضبا علي أبي جهل، فلحق بزوجته شهيدًا.
خبث الأشرار:
صرخ عمار بالألم لفقد أمه وأبيه، فزاد عبيد أبي جهل في تعذيبه والتنكيل به، حتى إنهم من شدة تعذيبهم له وما يرونه من صبره وثباته، صار هؤلاء العبيد الذين يعذبونه يظهرون له الرحمة ويقولون: قل أي شيء يُرضي أبا جهل حتى نفكَّ قيدك، وتتخلص من هذا العذاب.
رفض عمار، فزادوه تعذيبًا، وغطَّسوا رأسه في الماء حتى أوشك على الموت، لدرجة أنه أصيب بالإغماء عدة مرات، ثم في إحدى المرات شعروا أن العذاب قد أفقده اتزانه، وصار يتكلم بكلام غير مفهوم، فطلبوا منه أن يذكر أصنامهم بخير، ويذكر محمدًا بسوء، ففعل عمار ذلك وهو فاقد لاتزانه وفي غير وعيه من شدة العذاب.
توبة واطمئنان
فلما أفاق وتذكَّر ما قاله فزِع فزعًا شديدًا، وندِم أعظم الندم، ثم ذهب إلى النبي r مطاطئًا رأسه حزينًا، فقال له النبي r:"ما وراءك"؟ قال عمار: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تركوني حتى نِلْتُ منك– يعني قلت فيك قولاً سيئًا- وذكرتُ آلهتهم بخير.
فقال له النبي r: "كيف تجد قلبك"؟ قال عمار: مطمئن بالإيمان، فقال النبي r في رحمة الأب الشفيق بعد أن رأي جسد عمار وقد ملأته الجراح بسبب التعذيب: "فإن عادوا فعُدْ". يعني إن عذبوك وأكرهوك على أن تفعل ذلك ثانية، فافْعَله حتى تنجو من عذابهم، ولا تقلق ما دام قلبك عامرًا بالإيمان.
وعندئذ أنزل الله قوله تعالى: )مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)( سورة النحل.
والمعنى: أن من نطق بكلمة الكفر بعد أن صار مؤمنًا، ثم طابت نفسه ورضي قلبه بالكفر، فعليه غضب من الله في الدنيا والآخرة، ويوم القيامة له أشد العذاب، وأما من قالها مُجبرًا مُكرهًا بلسانه فقط؛ ليتخلص من العذاب، ولكن قلبه مُصدِّق ومؤمن بالله ورسوله، ومحبٌّ لهما، فهذا لا شيء عليه.
شهادات رائعة في حق لعمار:
وبرغم نزول هذه الآيات التي كانت رُخصة وإذْنًا لمن لا يستطع أن يتحمل العذاب، فإن كثيرًا من المسلمين فضَّلوا العذاب على النطق بكلمة الكفر.
وبقي عمار برغم عفو الله ونبيه عنه يشعر بالندم، ويزيد في الطاعات، حتى شهد له النبي r وصحابته بكمال الإيمان والتقوى، فعن هانئ بن هانئ قال: كنا عند علي بن أبي طالب جلوسًا، فدخل عمار، فقال له عليٌّ: مرحبا بالطيب المطيب، سمعت النبي r يقول: عمار مُلِئ إيمانًا إلى مشاشته[1].(2)، وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: اقتدوا باللذين من بعدي- وأشار إلى أبي بكر وعمر- واهتدوا بهدي[2] عمار.(3).
ــــــــــــــــــــــــ
الإحالات(الهوامش):
(*)(رواه ابن إسحاق بلاغا، كما أورده ابن هشام في السيرة، ووصله الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ووصله الطبراني في الأوسط، ورواه أبو نعيم في الحلية، ، ورواه البيهقي، وابن كثير في البداية، والذهبي في سير النبلاء، وابن حجر في الإصابة، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي).
(2)(رواه ابن حبان وابن ماجه وغيرهما وصححه الألباني)
(3)رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
[1] - المشاش: رءوس العظام كالمرفقين والكتفين.
[2] - والهدي: هو السيرة والطريقة. رابط القصة في موقع لها اون لاين : http://www.lahaonline.com/articles/view/40600.htm
جزاك الله خيرًا
ردحذف